جاء مولد الإمام السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي( قدس سره ) ( عام : 1317هــ) ، متوافقاًً مع توقعات وصوله الى منصب المرجعية الدينية العليا عند الأمامية، كما يقول استاذنا الراحل الدكتور حسين علي محفوظ: ان مولد الإمام السيد الخوئي ( قدس سره ) يساوي هذه العبارة (المرجع الديني الأعلى المجتهد المربي)(1)، وقد تحققت هذه العبارة بكامل مضامينها، فكان (قدس سره) عالماًً، فقيها، أصوليا، مفسراًً،رجالياًً، ادبياًً، شاعراً وأشار إلى جهوده العلمية في المدرسة النجفية بقوله: (فألقيت محاضراتي في الفقه (بحث الخارج) دورتين كاملتين لمكاسب الشيخ الأنصاري، كما درست جملة من الكتب الأخرى، ودورتين كاملتين لكتاب الصلاة، وشرعت في 27 ربيع الأول سنة 1377هـ في تدرس فروع (العروة الوثقى) الفقيه الطائفة السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ( قدس سره ) ، مبتدئاًً بكتاب الطهارة .(2) وكنا قد عاصرنا مجلس بحثه في مسجد الخضراء، وفي جوار مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، وقد غص بالفقهاء ورجال العلم لا يغني محصل عن حضور درسه، ولا يكبر كبير في العلم على منزلته.(3) وكانت الحوزة العلمية الكبرى في النجف الاشرف قد بلغت عهدها الذهبي في عهدي الإمامين الكبيرين السيد محسن الطباطبائي الحكيم، والسيد ابو القاسم الموسوي الخوئي ( قدس سره ) ، وقد تولى بعض تلاميذهما القيادة الدينية، والزعامة الحوزوية، وفي مقدمتهم: الإمام السيد علي الحسيني السيستاني،والإمام الشيخ محمد إسحاق الفياض، وكان الإمام السيد الخوئي ( قدس سره ) قد سد فراغاًً في علمي التفسير والحديث في المدرسة النجفية، وأشار إلى أهمية الدراسات القرآنية في الحوزة العلمية بقوله: ((كم كنت أود انتشار هذا الدرس وتطويره))(4) وبعد الجزء الأول في كتابه (البيان في تفسير القرآن) نقله نوعية في علم التفسير عند الامامية من حيث العرض والتبويب والتخليل والتدقيق، فهو قد ساير في منهجه وأسلوبه العلمي تطور البحث الحديث(5)
ويقول الشيخ محمد إسحاق الفياض:إن السيد الخوئي ( قدس سره ) رافق مسيرة العلم، وحركة التطور والنمو الفكري في هذه المدرسة الكبرى (مدرسة النجف الاشرف ) وكان قد رفع رايتها خفاقة عالية، ورصدها بتأليفاته القيمة، وتحقيقاته وتدريسه في حقول المعرفة كالأصول والفقه والتفسير والرجال، حيث انه تعمق فيها دقة وسعة ولاسيما في علمي الأصول الفقه، واحكم قواعدهما النظرية والتطبيقية، وبناهما على أسس متينة ومجددة، ومبان رصينة،و اكتشف أفاقا جديدة في هذين العلمين الشريفين، فأبدع في ذلك(6) وقد حافظ الإمام السيد الخوئي ( قدس سره ) على الحوزة العلمية، ومدرسة النجف الاشرف، في مرحلة عصيبة في تاريخها، وتحمل اخطارها، وعمل جاهداًً على استمرار العطاء العلمي، على الرغم من تعرض أعلام المدرسة النجفية للضغط والإرهاب والسجن والإعدام والإبعاد عن الوطن، و أسس مدرسة علمية وسماه (دار العلم) ومكتبة عامرة، ولكن على الرغم من الانتكاسة التي منيت بها مدينة النجف الاشرف على يد السلطة الظالمة الجائرة فان الإمام السيد الخوئي حافظ على استمرارية المدرسة النجفية، وأبقاها منبر اشعاع ديني وفكري، ومركز المرجعية العليا للعالم الإسلامي.
وكان الإمام السيد الخوئي ( قدس سره ) في تعمقه بدراسة الحديث الشريف عند الأمامية، وقد توصل وفق أرائه الاجتهادية إلى صحة هذا الحديث، وضعف ذاك الحديث، وكان قد وضع كتابي الشيخ الطوسي أبي جعفر محمد بن الحسن ( رحمه الله ) ، المتوفى عام 460هــ، وهما: ((تهذيب الأحكام)) و ((الاستبصار فيما اختلف من الأخبار)) موضع البحث، والنقد الموضوعي، وقد أوضح آراءه الاجتهادية في كتابه الموسوعي (معجم رجال الحديث) وفي رسالته للمهرجان الألفي للشيخ الطوسي، والمنعقد في مدينة مشهد بخراسان، وان القارئ لأراء الإمام السيد الخوئي يجد فيها صراحة في أفكاره، ودقة في ردوده على محدثي الامامية الذين سبقوا الشيخ الطوسي،وفي مقدمتهم الشيخ الكليني أبي جعفر محمد بن يعقوب ( رحمه الله ) ، المتوفى عام 329هــ، والشيخ الصدوق أبي جعفر محمد علي القمي ( رحمه الله ) ،المتوفى عام 318هــ، فيما يتصل بالرواة الضعفاء، والروايات المرسلة في كتابي (الكافي، ومن لا يحضره الفقيه) فيقول: (لو كان الشيخ يعتقد إن جميع روايات الكافي والفقيه مقطعية الصدور، أو أنها صحيحة،وان لم تكن مقطعية الصدور لم يكن يعترض على هذه الروايات بضعف السند أو بالإرسال،ولاسيما ان المرسل ابن بكير(وهو عبد الله بن بكير، فطحي المذهب، وله كتاب) وهو من أصحاب الإجماع، وابن فضال (وهو معاوية بن وهب بن فضال وله كتاب) المعروف بالوثاقة (7) وقد تكامل السيد الخوئي (قدس سره) مع الأحاديث المروية بروح عليمة دقيقة، بموضوعية محايدة، وقد رفض رأي جماعة من المحدثين القائلين بدعوى القطع بصدور رواية رواها واحد عن واحد، ولاسيما ان رواة الكتب الأربعة (الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، وتهذيب الأحكام، والاستبصار فيما اختلف فيه الأخبار) ومن هو معروف بالكذب والوضع، وهذا مما يؤكد ان السيد الخوئي قد وقف بدقة على أسانيد الكتب الأربعة، وما يلحق برجالها من مصطلحات الجرح والتعديل، وعند وقوفه على مرويات الشيخ الصدوق، وجد بعضها غير سليمة،وان استقاها من الشيخ الكليني، فيقول: (ان كتاب الكافي في اعتقاد الصدوق كان مشتملاًً على الصحيح وغير الصحيح كسائر المصنفات (8) وكان الشيخ الصدوق قد سبق علماء الأمامية في نقد الحديث، وتمحيص الروايات، وكأن هذه المهمة موكولة إلى المجتهدين في مجالات استنباط الأحكام، وقد نهج الشيخ الطوسي منهج الشيخ الصدوق في النقد العلمي، ووقف المتفحص في كثير من المواقف، وأحال بعضها على كتابة (الفهرست) وكان الإمام السيد الخوئي في تقويمه العلمي للشيخ الطوسي في منتهى الدقة والموضوعية فيقول: ((استطاع الشيخ الطوسي أن يصب كل تلك الطاقات في بناء علمي واحد، ويضيف إليها من عطائه وإبداعه واهباًً للعلم أسباب الانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل النمو والتطور))(9) وعند حديث السيد الخوئي عن نشاط الشيخ الطوسي الفقهي والأصولي،سلك الطريق ذاته الذي اختطه في دراسته العلمي الحديث والرجال وعند حديثه عن كتاب (( المبسوط)) يقول: (ان الشيخ الطوسي ظهر على المسرح العلمي، وقد اكتسب المبسوط طابعه العلمي المحدد، وفرض من الناحية المنهجية الاقتصار- غالباً- على الاستدلال بالنص في استنباط الحكم الشرعي)(10) وقد جعل السيد الخوئي كتاب المبسوط عملاًً فقيهاً مبتكراًً في تاريخ الفقه الامامي لأنه استوعب كثيراً من الفروع والتفصيلات، واستعمل في استنباط الحكم في كل ذلك منهجاًً متكاملاً قادراً على إن يجد للفقيه دائماً الحجة اللازمة في كل كتاب أو سنة أو أصل، فيقول: ان الأصول الفكرية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، قادرة على استنباط أي حكم في جميع الوقائع.
أما كتاب (عدة الأصول) للشيخ الطوسي، فانه يعد نتاجاًً عقائدياً رد فيه على الاتهام الذي وجهه خصوم آل البيت عليهم السلام للفكر الامامي، فيقول السيد الخوئي: إن الشيخ الطوسي حقق مكسباً عقايدياً كبيراً، إذ رد على ذلك الاتهام الذي وجهه الخصوم الفكري إلى مدرسة أهل البيت، وتحميلها مسؤولية عجز الفقه الشيعي عن النمو والامتداد (11) ولعل ابرز ما تضمنه كتاب (عدة الأصول) هو رأي الشيخ الطوسي بخبر الواحد، والأخذ بحجته، مخالفاًً في ذلك رأي أستاذه الشريف المرتضى.(12)
ولنا مع الشيخ الطوسي ( رحمه الله ) وقفة سريعة عند تحليل الإمام السيد الخوئي لبعض الرجال، وفي مقدمتهم (رجال الإمام الصادق عليه السلام) وقال: انه لم ينسب إليه توثيقهم، ويستحيل عادة ان يكون جميعهم ثقات، ووقف السيد الخوئي على بعض الرجال الذين ذكرهم الشيخ الطوسي بأنهم من أصحاب الأئمة عليهم السلام ثم ذكر بعضهم في باب (من تأخر زمانه عن الأئمة) من أمثال: ثابت بن شريح، وكليب بن معاوية، وعقب الإمام السيد الخوئي على هذا التناقض بقوله: (وان هذا لا يصح) أوانه (صدر من الشيخ الأجل الغفلة والنسيان)(13) وأننا أمام هذه الآراء السديدة،والنقد العلمي الدقيق الذي حدده الإمام السيد الخوئي، نجد فيه عمقاًً فكرياًً بعيداًً عن العاطفة والتحيز المذهبي، ولم تقف مكانة الراوي العلمية ومنزلته الفكرية الرفيعة أمام نقد الإمام السيد الخوئي (قدس سره).
هوامش البحث:
1- جريدة الجمهورية، العدد (8284) بتاريخ 1/9/1992 .
2- الامام الخوئي : معجم رجال الحديث 22/23.
3- الدكتور محيي الدين: الحلي والعاطل ص16.
4- الامام الخوئي: معجم رجال الحديث 22/24.
5- الدكتور الحكيم: المفصل في تاريخ النجف الاشرف 8/ 169.
6- الامام الفياض: المختصر في الحياة العليمة ص16.
7- الامام الخوئي: معجم رجال الحديث 1/44.
8- المصدر نفسه 1/40.
9- الامام الخوئي: رسالة الى المهرجان الالفي للشيخ الطوسي ص1 –ص2.
10- المصدر نفسه ص2.
11- المصدر نفسه ص3.
12- الدكتور الحكيم: الشيخ الطوسي ص471.
13- الخوئي: معجم رجال الحديث 1/116 – 177.
المصادر والمراجع
• الحيكم: حسن عيسى (الدكتور)
1- الشيخ الطوسي ابو جعفر محمد بن الحسن، مطبعة الاداب/ النجف الاشرف، 1395هــ/ 1975م.
2- المفصل في تاريخ النجف الاشرف، مطبعة الشريعة/ قم 1429هــ.
• الخوئي: ابو القاسم الموسوي (الامام)
3- رسالته للمهرجان الالفي للشيخ الطوسي، من كتاب (الذكري الالفية) مطبعة جامعة مشهد 1391هــ.
4- معجم رجال الحديث ، مطبعة الاداب/ النجف الاشرف 1390هــ/ 1970م.
• الفياض: محمد اسحاق الفياض ( معاصر )
5- المختصر في الحياة العلمية
• محيي الدين: عبد الرزاق (الدكتور)
6- الحالي والعاطل/ تتمة أهل الآمل، مطبعة الاداب/ النجفر الاشرف 1391هــ/ 1971م.